نصف مليون فلسطيني على بعد 13 ألف كم من القدس

تكاد تشيلي تكون بلداً ثانٍ للفلسطينيين حيث يعيش فيها ما يقارب نصف مليون فلسطيني، ولا يعد التجمع الفلسطيني في تشيلي حديثاً إنما هو قديم منذ قرون ومرتبط بعدة مراحل توزعت بين العام 1880 مروراً بالنكبة والنكسة وصولاً لترحيل الفلسطينيين من العراق والكويت خلال حرب الخليج.
وتعتبر تشيلي أكبر تجمع فلسطيني في أميركا اللاتينية إذ وصل عدد العائلات الفلسطينية 1224 عائلة عام 1941، لتكون ثاني أكبر تواجد للفلسطينيين في الخارج بعد الأردن.
طبيعة التشيلستيون
يشير مصطلح تشيلستيون إلى هوية فريدة تمزج بين الهوية الفلسطينية والتشيلية، حيث تجمع بين الوطن الأم والوطن المؤقت دون تغيير الانتماء للأصل.
وهناك عدد كبير من المسيحيين الفلسطينيين في تشيلي والذين ترجع أصولهم إلى مدن بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور والطيبة والجفنة في رام الله، وعدد هؤلاء في تشيلي يفوق عدد المسيحيين في فلسطين ذاتها".
كما بنى الفلسطينيون في عام 1917 كنيسة "إگلسيا أرتودوكسا سان جورج" في ضاحية ريكوليتا، وبذلك باتت الجالية تلتقي تجارياً وثقافياً في مكان واحد اشتهر بـ "باتروناتو".
ويتوزع أبناء الجالية الفلسطينية في كافة أقاليم ومناطق تشيلي، والغالبية منهم موجودون في العاصمة سانتياغو والمناطق المحيطة بها، وكذلك في الجنوب من تشيلي، وعلى وجه الخصوص منطقة كونسبسيون، تشيان، فاديفيا، لينارز، كوريكو، تالك.
ويعمل الفلسطينيون في تشيلي في كافة القطاعات الاقتصادية، وعلى كافة المستويات،حيث يوجد رجال أعمال ومستثمرون كبار، وحسب التقارير الصحفية، فإن الجالية الفلسطينية تسيطر على ما يقارب 70% من الاقتصاد، ويوجد أكبر عشرة بنوك في تشيلي، ستة منها مملوكة لفلسطينيين، وهناك وزراء وأعضاء برلمان من أصل فلسطيني.
مراحل اللجوء
كان الفلسطينيون ينظرون لأوروبا أنها أرض الآمال التي ستنتشلهم من المآسي والمجاعات والأوبئة والبطالة المتفشية والنزاعات الدينية، فلجؤوا لبلدان أميركا الجنوبية بعد أن وصلهم أنها تحررت من سيطرة المتنازعين الأوربيين خاصة الإسبان والبرتغال، وتأسست فيها جمهوريات مستقلة تعايش فيها كل المواطنين من بيض وسكان أصليين ومهاجرين في أجواء من الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية.
ويعتبر جبران دعيق من مدينة بيت لحم، أول فلسطيني وصل إلى هذه البلاد في عام 1880، وفي العام نفسه تبعه صالح يوسف جاسر، لقد سكن كلاهما في مدينة "كونسيبسيون" في المنطقة الوسطى الجنوبية، وعملا في صناعة تحف الأراضي المقدسة والتجارة بها.
بعد ذلك تبعهم مهاجرون آخرون وعلى فترات يمكن حصرها بثلاث مراحل رئيسة ومنتظمة وجماعية، الأولى بدأت بين عام 1880-1914 والمرحلة الثانية من 1914- 1939 ثم مرحلة النكبة 1948 والنكسة عام 1967، ثم بدأت هجرات متفرقة خلال الحرب اللبنانية 1975- 1985، ثم مرحلة جديدة في التسعينيات والالفين خاصة الفلسطينيين في العراق.
اتسمت المرحلة الأولى بهجرة أعداد قليلة خاصة من المسيحيين الفلسطينيين ومن مدينة بيت لحم وبيت جالا وقراها نظرا للأوضاع الاقتصادية السيئة والاضطرابات السياسية في البلاد، ووفقا للإحصاء التشيلي لعام 1885 وصل 29 فلسطينياً، وكان يطلق عليهم "الأتراك من آسيا" قصد بهم الفلسطينيون آنذاك، واستمرت الهجرة إلى تشيلي بأعداد قليلة وصولاً لعام 1908 حيث تدفق عدد من الفلسطينيين المسيحيين، وقليل من المسلمين الفارين من التجنيد الإجباري.
وكان لسياسة التجنيد الإجباري العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى دوراً كبيراً في لجوء عدد من الفلسطينيين إلى تشيلي، إلا أن أكثر موجات اللجوء جاءت بعد نكبة عام 1948، والنكسة عام 1967، وتبعها موجات لجوء واسعة في أعقاب الحرب الأهلية في لبنان، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وكذلك جاءت موجات أخرى بعد الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، وترحيل الفلسطينيين من الكويت والعراق، على أثر حربي الخليج الأولى والثانية.
لماذا تشيلي؟
حسب تقارير صحفية كانت الهجرة من فلسطين وسوريا ولبنان قد بدأت إلى تشيلي خلال سيطرة الدولة العثمانية حيث اعتقد الكثيرون بتوافر الفرص في "العالم الجديد".
ومن هذا المنطلق شقوا طريقهم إلى أوروبا ومنها إلى بيونس أيرس ولكن بدلاً من البقاء في هذه المدينة الغنية الأوروبية الطابع فضل العديد من الفلسطينيين عبور جبال الإنديز إلى تشيلي.
ويقول البروفيسور إيغينيو شاهوان، من مركز الدراسات العربية في جامعة تشيلي: " كانت الظروف في تشيلي في ذلك الوقت أفضل لهؤلاء المهاجرين القادمين من فلسطين."
وكانت تشيلي في ذلك الوقت مثل غيرها من دول أميركا اللاتينية تتطلع إلى المهاجرين لتعزيز اقتصادها، ومع أن النخبة في ذلك البلد كانت تفضل الأوروبيين الذين تمنحهم الحقوق والأراضي إلا أن الفلسطينيين راهنوا على تشيلي.
ولم يحصل القادمون من الشرق الأوسط على أية فوائد فاختاروا التجارة وصناعة النسيج وهو الخيار الذي أدى إلى ازدهار الجالية لاحقاً.
وحسب دانيال جاد، وهو حفيد مهاجر من بيت جالا، فإن وسط تشيلي يماثل إلى حد كبير المدن التي تركها أولئك المهاجرون الفلسطينيون فقد أرادوا العيش في بيوت تشبه تلك التي تركوها.
اندماج
يشغل أحفاد أبناء فلسطين في تشيلي جميع مرافق الحياة، فبالإضافة لرجال الأعمال والاقتصاد، فإن هناك عدداً مهماً في مراكز مهمة أخرى كأطباء، ومهندسين، ومحامين، ورجال اقتصاد، وفنانين، وعسكريين، وأساتذة، وعلماء، وكتاب، وشعراء، وسياسيين، ورجال دين، وأصحاب مزارع وبنوك.
وشغل الفلسطينيون مناصب عليا في تشيلي حيث يضم البرلمان 14 عضواً من أصول فلسطينية، أبرزهم فرانسيسكو شهوان الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية وكان عضو البرلمان التشيلي والآن هو عضو مجلس الشيوخ التشيلي.
وأيضاً تنشط في البرلمان التشيلي مجموعة أصدقاء فلسطين والتي تمثل 50% من أعضائه وتناصر فلسطين علناً ومن أبرز أنشطتها "حملة في القارة اللاتينية لمطالبة بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور".
ومن الشخصيات الفلسطينية البارزة أيضاً في تشيلي ألفارو صايغ، رجل أعمال وشغل منصب النائب الأول لأحد أكبر المؤسسات المصرفية في تشيلي، وهو القائم بأعمال الرئيس التنفيذي لوسائل الإعلام، وصاحب فندق جراند حياة سانتياغو، وفور سيزونز في بوينس آيرس، وفور سيزونز كارميلو، ومدير سانتياغو للأوراق المالية، وعضو في المعهد الدولي للتمويل .
تمسك بالهوية
وللحفاظ على الهوية والتراث الفلسطينيين، أسس المهاجرون الأوائل لتشيلي نوادي ثقافية واجتماعية، منها نادي "بالستينو" الاجتماعي، الذي يجتمع فيه أبناء الجالية أسبوعياً، يناقشون قضاياهم، ولا تغيب عنهم قضية الوطن الأم.
ومع أن معظم الفلسطينيين في تشيلي لا يتكلمون اللغة العربية، إلا أنهم غالباً ما يحتفظون بعلاقة مع الوطن بطرق أخرى مثل الموسيقى والطعام والرقص.
وهناك بالإضافة إلى النوادي والمؤسسات الكثيرة، مناسبات وأحداث تذكر فلسطين، وشعبها وثقافتها ومنها: نادي فلسطين الرياضي الذي يشترك أسبوعياً في دورة كرة القدم.
ويقام سنوياً مهرجان للأغنية الفلسطينية ومعرض للرسم والفن التشكيلي الفلسطيني تحت عنوان "فلسطين كما تراها تشيلي" ويرفرف في هذه المناسبات علم فلسطين عاليا".
وعلى الرغم من أن سانتياغو تبعد 13 ألف كم عن مدينة القدس إلا أن هذه المسافة لم تنجح في فصل الفلسطيني عن وطنه الأم.